نعم كان ثمة رجل اسمه غسان كنفاني...والأستاذ جهاد فاضل لم يفتر علي ّ حين تحدث ذات يوم عن رسائل متبادلة بيننا سأقوم بنشرها دون حذف حرف منها...ولم يبح بسر شخصي حين خط سطوره ...على العكس، كنت أريد أن يكتب ما كتب، على أمل أن يتصل بي (الشخص) الذي ما تزال رسائلي بحوزته...فالذي حدث أن الشهيد غسان قتل والعلاقات الدبلوماسية بيننا على أفضل حال ، ولم يحدث ما يستدعي قطع العلاقات وسحب الرسائل والسفراء...وبعبارة أخرى: رسائله عندي ورسائلي عنده كما هي الحال لدى متبادلي الرسائل كلهم!!...
وأنتهز الفرصة لأوجه النداء إلى من رسائلي بحوزته (أو بحوزتها)..نداء أشاركهم فيه محبة غسان وأرجوهم جعل حلم نشر رسائلنا معا ممكنا كي لا تصدر رسائل غسان وحدها حاملة أحد وجوه الحقيقة فقط بدلا من وجهيها..وأنا والحق يقال لا أدري أين رسائلي إليه..كل ما أعرفه هو أن تلك الرسائل العتيقة لم تعد ملكا لأحد ، وإنما تخص القارئ العربي كجزء من واقعه الأدبي والفكري على لسان مجنونيّ حبر، صار أحدهما غبارا مضيئا منذ عقدين من الزمن ، وتستعد الأخرى لمهرجان التراب منذ ولادتها ...إنها رسائل تدخل في باب الوثائق الأدبية أكثر مما تدخل في باب الرسائل الشخصية بعدما ما انقضى أكثر من ربع قرن على كتابتها، فخرجت من الخاص إلى العام ، باستشهاد صاحبها قبل عشرين سنة.
نعم كان ثمة رجل اسمه غسان كنفاني...ونشر رسائلنا معا هو أيضا إقلاق لراحة الرياء ولنزعة التنصل من الصدق ...وهي نزعة تغذيها المقولات الجاهزة عن (التقاليد الشرقية) المشكوك أصلا في صحتها...أنا من شعب يشتعل حبا ، ويزهو بأوسمة الأقحوان وشقائق النعمان على صدره وحرفه...ولن أدع أحدا يسلبني حقي في صدقي....وإذا كانت جدتي المسلمة –مثلي- ولادة بنت المستكفي قد فتحت خزائن قلبها منذ تسعة قرون تقريبا ، فلم أخشى أنا ذلك في زمن المشي فوق سطح القمر ...ولماذا يكون من حقها أن تقول في ابن زيدون:
ترقب إذا جن الظلام زيارتي = فإني رأيت الليل أكتم للسر
وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلح =وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر
فلماذا لا أجرؤ على نشر رسائلي ورسائله دونما تبديل أو تعديل-بغض النظر عما جاء فيها أو لم يجيء؟-..
للحقيقة سطوة ترفض مجاملة الزيف وركوعا مني لسطوتها سأنشر رسائل زمن الحماقات الجميلة دون تعديل أو تحوير ، لأن الألم الذي تسببه لآخرين عابرين مثلي هو أقل من الأذى اللاحق بالحقيقة إذا سمحت لقلمي بمراعاة الخواطر ...والحقيقة وحدها تبقى بعد أعوام حين أتحول وسواي من العابرين إلى تراب كغسان نفسه...ولذا قدمت هذا الاعتبار على أي اعتبار آخر ولسان حالي يقول : قد لا أريد أن أتذكر كي لا أجرح الحاضر، ولكنني لا أستطيع أن أنسى كي لا أخون ذاتي والحقيقة معا...
وريثما أحصل على رسائلي إليه فأنشرها ورسائله معا ، أكتفي مؤقتا بنشر رسائله المتوافرة، بصفتها أعمالا أدبية لا رسائل ذاتية أولاً ووفاء لوعد قطعناه على أنفسنا ذات يوم بنشر هذه الرسائل بعد موت أحدنا، ولم يدر بخلدي يومئذ أنني سأكون الأمينة على تنفيذ تلك الرغبة الكنفانية-السمانية المشتركة.
نعم كان ثمة رجل يدعى غسان كنفاني...وكان يعرف أن حبي للحقيقة يفوق أحيانا حتى حبي لذاتي، ومن هنا كانت الحرب التي لن تهدأ يوما بيني وبين المؤسسات المكرسة لرعاية الرياء الاجتماعي و(تطييب خاطره)...وإذا كنت قد جاملتها يوما فبالمقدار الذي يسمح لي بالبقاء على قيد الحياة لا أكثر، وعلى طريقة (غاليليو) الذي أعلن أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس-لأنها ببساطة الحقيقة وبغض النظر عمن تزعزع جذور حياته كشفها –ولكنه عاد وسحب مؤقتا كلامه وهو يهمس (ولكنها ما تزال تدور...)...
ونشر رسائل غسان كنفاني فعل رفض للخضوع لزمن الغبار الذي يكاد يتكدس في الحناجر وعصر التراجع صوب أوكار تزوير المشاعر البشرية الجائعة أبداً إلى حرية لا تؤذي وإذا فعلت فعلى طريقة مبضع الجراح لا خنجر قاتل الظلام
ثمة أديبة عربية نشرت رسائل حبيبها الشاعر خليل حاوي بعدما حذفت اسمها منها ( واحتراما لرغبتها لن أذكره) كما شطبت بنفسها بعض السطور التي وجدتها محرجة في حق سواها على الأرجح...ولم تنج من اللوم لأنها تجنت على الأمانة الأدبية ...وأنا أعتقد أن العتاب لا يجب أن يوجه إليها ، بل إلى القيم التقليدية السائدة التي تجعل سلوكا كهذا مفهوما – بل ومدعاة للاحترام- ..والهجوم لا يجوز أن يوجه للأديبة التي نفذت تعاليم مجتمعها ، بل لذلك المجتمع المهترىء بالزيف الذي يجد في أكبر حقائق الحياة عيبا يجب التنصل منه في حجرات السر المظلمة ...
وليس من حقنا معاتبة تلك الأديبة على مزاجها الشخصي في المقاومة ، ولا الطلب من جميع الأديبات لعب دور العين التي تقاوم المخرز ...بل علينا أولا ضرب اليد التي تمتد بأصابعها السكاكين لتقص أغصان أية شجرة تومض فيها شرارات الحقيقة..كي لا تضرم نار عشق الصدق في غابات القلوب المتعطشة إلى حرية الضوء ، التائهة أمام المعادلة المستحيلة: كيف نضيء دون أن نحترق؟!..
نعم كان ثمة رجل يدعى غسان كنفاني...وتسديد طعنة إلى (جمعيات الرياء المتحدة) أمر كان سيطرب له غسان ، كما كان سيفرح بإحياء ذكر أي شهيد نقي يستحق من ذاكرتنا حيزا أكبر من الذي رصدناه له ...ولعل ذلك أحد الأسباب التي دعتنا يوما للعهد الذي قطعناه على أنفسنا بنشر رسائلنا معا وهو عهد ربما كنت سأتملص من تنفيذه أو أؤجله لو لم أشعر أن هذه الرسائل خرجت من الخاص إلى العام بمرور الزمن.
ولكن ثمة عوامل أخرى أيضا تحثني على نشر رسائل غسان كنفاني دونما تردد ، منها مثلا رسم شخصية (الفدائي) من الداخل ....أي مناضل في أي وطن ...
ثمة ميل دائم في الأدب العربي بالذات لرسم صورة (المناضل) في صورة (السوبرمان) ولتحييده أمام السحر الأنثوي وتنجيته من التجربة..وفي رسائل غسان صورة المناضل من الداخل قبل أن يدخل في سجن الأسطورة ويتم تحويله من رجل إلى تمثال في الكواليس المسرحية السياسية ....
وهي صورة أعتقد أن بوسعها أن تغني أدب الجيل الطالع عامة وأدب المقاومة خاصة وتبعده عن هوة الضوضاء الخطابية المهرجانية السياسية التي يلقى الإبداع فيها مصرعه بعدما حلت الإنشائيات والرطانات المدرسية المزودة بمكبرات الصوت محل دقات القلب .وبهذا المعنى تبدو لي قراءة رسائل غسان كنفاني ضرورة للروائيين الشباب....حيث يطلعون على صورة حية لحياة شهيد حقيقي بعيدا عن أقنعة التزوير .....وأعتقد أن ( أنسنة) فكرة الشهيد لا تؤذي القضية ، بل على العكس من ذلك، تساعد كل إنسان على اكتشاف العملاق الذي يقطنه مهما بدا لنفسه أو للذين من حوله مريضا وضعيفا – بالمفاهيم التقليدية- وعاشقا مهزوما كسره الحب حيناً وملأه بالزهو والاعتداد أحيانا ....
سنكتشف في رسائل غسان أن كلاً منا يستطيع أن يكون مهما لوطنه إذا تبع صوت قلبه بلا وجل حتى النهاية وتخلص من الازدواجية بين المشاعر والسلوك قدر الإمكان، فإذا أحب وطنه حتى الموت مارس ذلك الحب سلوكا ، لا خطبا طنانة على المنابر فقط....
بهذا المقياس أرى كنفاني شهيدا نموذجيا بالمعنى العالمي والإنساني للكلمة ورسائله تجسد هذا النقاء الثوري البعيد عن (التبتل الاستعراضي) والفساد السري، ولعبة الرصانة الديكورية والأقنعة اللا مقنعة