الوفاء للعهد على نشر هذه الرسائل بعد خروجها من الخاص إلى العام بحيث صارت وثيقة أدبية ...التأسيس لنوع أدبي منتشر في الدنيا بكثرة ويكاد يكون معدوما عندنا هو أدب المراسلات غير الرسمية ، مراسلات الاعتراف : اللون الناقص شبه المفقود في لوحة الأدب العربي . عشق الحقيقة...إحياء ذكرى غسان ...الإعلان عن عاطفة نبيلة تزويرها يدعو إلى الخجل لا كشفها .تكريم الشهيد .....أهذه وحدها تقف خلف رغبتي في نشر رسائل كنفاني؟؟
ها أنا أستجوب نفسي في لحظة صدق وأضبطها وهي تكاد تتستر على عامل نرجسي لا يستهان به : الفخر بحب رجل كهذا أهدى روحه لوطنه وأنشد لي يوما ما معناه
مولاي وروحي في يده ..........إن ضيعها سلمت يده
وأعتقد أن كل أنثى تزهو (ولو سراً) بعاطفة تدغدغ كبرياءها الأنثوي ....وأنا بالتأكيد لا أستطيع تبرئة نفسي من ذلك جزئيا!...ولكني في الوقت ذاته أتساءل : إلى أي مدى تضيف رسائل غسان إلى صورته في الأذهان (أو تنقصها)؟..وأجد بكل الإخلاص أن هذه الرسائل تمنح صورته بعداً إنسانيا جميلاً أخاذاً يذكر بشخصية طالما أحبها غسان هي شخصية (الدكتور جيفاكو) التي أبدعها الأديب الروسي (باسترناك) وكان غسان يحبها كثيرا (قدر كرهي لشخصية حبيبته لارا في الرواية وكانت مستسلمة تركت قدرهما يدمرهما معا ). ولعل غسان كان يعي ذلك حين طلب مني أن أعاهده على نشر تلك الرسائل ذات يوم بعيد كأنه البارحة .إنها وجهه الحقيقي أو أحد وجوهه الأصلية..
نعم .كان ثمة رجل يدعى غسان كنفاني...وأعترف لذكراه أن فكرة إحراق الرسائل راودتني مراراً ، وأنا أنشد مع الجوقة ضد المشي بين القبور هربا من الثمن الذي يدفعه كل من يجرؤ على إقلاق راحة الرياء....في ممالك الأقنعة واللاوفاء
ولكن للرسالة سحرا أبيض لا أسود...يتحول فيها المرء إلى رقعة ملساء نقية اسمها الورقة، وتخط الروح فوقها رموز الصدق...
الرسالة جموح القلب إلى المستحيل،وشهية الأشواق إلى تقمص اللغة حتى البقاء . والمظروف أحد أكفان لحظات الخلود الصغيرة، حين لا يخطر ببال المرء أنه سيتحول من رجل إلى طابع بريد!..ومن عاشق إلى شهيد...
وإلى جانب النرجسية الصغيرة التي لا يخلو منها أحد (بعضنا يعترف وبعضنا يكابر) ، ثمة شعور بالجميل أحمله نحو غسان الصديق وسبق لي أن عبرت عنه في حواري مع الدكتور غالي شكري- الذي صدّر به كتاباً نقدياً له عني- منذ خمسة عشر عاما .
وهو شعور بالجميل لا يزيده الزمن إلا تأججا وسطوعا ....ذات يوم، كنت وحيدة ومفلسة وطريدة،وحزينة، فشهر بعض (الأصدقاء) سكاكينهم بانتظار سقوط (النعجة) – على عادة الدنيا معنا- ....يومها وقف كنفاني إلى جانبي وشهر صداقته...كنت مكسورة بموت أبي ، ومحكومة بالسجن لذنب أفخر به، ولكن غسان أنجدني بجواز سفر، ريثما صدر أوائل السبعينات عفو عام شملني